الإجماع على عدالة الصحابة

بواسطة |  د. ناصر بن علي الشيخ
2005/03/24
أجمع أهل السنة والجماعة على أن الصحابة جميعهم عدول بلا استثناء من لابس الفتن وغيرها ولا يفرقون بينهم الكل عدل إحساناً للظن بهم ونظراً لما أكرمهم الله به من شرف الصحبة لنبيه عليه الصلاة والسلام ولما لهم من المآثر الجليلة من مناصرتهم للرسول صلى الله عليه وسلم والهجرة إليه والجهاد بين يديه والمحافظة على أمور الدين والقيام بحدوده فشهادتهم ورواياتهم مقبولة دون تكلف بحث عن أسباب عدالتهم بإجماع من يعتد بقوله .
وقد نقل الإجماع على عدالتهم جم غفير من أهل العلم ، ومن تلك النقول :
(1) قال الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى بعد أن ذكر الأدلة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي دلت على عدالة الصحابة وأنهم كلهم عدول ، قال : (( هذا مذهب كافة العلماء ومن يعتد بقوله من الفقهاء )) (1) .
(2) قال أبو عمل بن عبد البر : (( ونحن وإن كان الصحابة رضي الله عنهم قد كفينا البحث عن أحوالهم لإجماع أهل الحق من المسلمين وهم أهل السنة والجماعة على أنهم عدول فواجب الوقوف على أسمائهم )) (2) .
(3) حكى الإجماع على عدالتهم إمام الحرمين وعلل حصول الإجماع على عدالتهم بقوله : (( ولعل السبب فيه أنهم نقلة الشريعة ، فلو ثبت توقف في رواياتهم لانحصرت الشريعة على عصر الرسول صلى الله عليه وسلم ولما استرسلت على سائر الأعصار )) (3) .
(4) وقال الغزالي : (( والذي عليه سلف الأمة وجماهير الخلق أن عدالتهم معلومة بتعديل الله – عز وجل 0 إياهم وثنائه عليهم في كتابه ، فهو معتقدنا فيهم ، إلا أن يثبت بطريق قاطع ارتكاب واحد لفسق مع علمه به وذلك مما لا يثبت فلا حاجة لهم إلى التعديل .. ) – ثم ذكر بعض ما دل على عدالتهم من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم – ثم قال : (( .. ، فأي تعديل أصح من تعديل علام الغيوب – سبحانه – وتعديل رسوله صلى الله عليه وسلم كيف ولو لم يرد الثناء لكان فيما اشتهر وتواتر من حالهم في الهجرة والجهاد وبذل المهج والأموال وقتل الآباء والأهل في موالاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصرته كفاية في القطع بعدالتهم ))(4) .
(5) ذكر ابن الصلاح أن الإجماع على عدالة الصحابة خصيصة فريدة تميزوا بها عن غيرهم ، فقد قال : (( للصحابة بأسرهم خصيصة وهي أن لا يسأل عن عدالة أحد منهم ، بل ذلك أمر مفروغ منه لكونهم على الإطلاق معدلين بنصوص الكتاب والسنة وإجماع من يعتد به في الإجماع من الأمة )) .
وقال أيضاً : (( إن الأمة مجمعة على تعديل جميع الصحابة ومن لابس الفتن منهم ، فكذلك بإجماع العلماء الذين يعتد بهم في الإجماع إحساناً للظن بهم ونظراً إلى ما تمهد لهم من المآثر ، وكأن الله – سبحانه وتعالى – أتاح الإجماع على ذلك لكونهم نقلة الشريعة والله أعلم ))(5) .
(6) قال الإمام النووي رحمه الله تعالى بعد أن ذكر أن الحروب التي وقعت بينهم كانت مجرد اجتهاد وأن جميعهم معذورون رضي الله عنهم فيما حصل بينهم ، قال : (( ولهذا اتفق أهل الحق ومن يعتد به في الإجماع على قبول شهادتهم ورواياتهم وكمال عدالتهم رضي الله عنهم )) (6) .
وقال في التقريب : (( الصحابة كلهم عدول من لابس الفتن وغيرهم بإجماع من يعتد به ))(7).
(7) وقال الحافظ ابن كثير : (( والصحابة كلهم عدول عند أهل السنة والجماعة لما أثنى الله عليهم في كتابه العزيز ، وبما نطقت به السنة النبوية في المدح لهم في جميع أخلاقهم وأفعالهم وما بذلوه من الأموال والأرواح بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم رغبة فيما عند الله من الثواب الجزيل والجزاء الجميل ))(8) .
(8) وقال العراقي في شرح ألفيته بعد ذكره لبعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الدالة على عدالة الصحابة : (( إن جميع الأمة مجمعة على تعديل من لم يلابس الفتن منهم ، وأما من لابس الفتن منهم وذلك من حين مقتل عثمان فأجمع من يعتد به أيضاً : في الإجماع على تعديلهم إحساناً للظن بهم وحملاً لهم في ذلك على الاجتهاد )) (9).
(9) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى مبيناً أن أهل السنة مجمعون على عدالة الصحابة فقال : (( اتفق أهل السنة على أن الجميع عدول ، ولم يخالف في ذلك إلا شذوذ المبتدعة )) (10) .
(10) وقال السخاوي : (( وهم رضي الله عنهم باتفاق أهل السنة عدول كلهم مطلقاً كبيرهم وصغيرهم لابس الفتنة أم لا وجوباً لحسن الظن ، ونظراً إلى ما تمهد لهم من المآثر من امتثال أوامره بعده صلى الله عليه وسلم وفتحهم الأقاليم وتبليغهم عنه الكتاب والسنة وهدايتهم الناس ومواظبتهم على الصلاة والزكاة وأنواع القربات مع الشجاعة والبراعة والكرم والإيثار والأخلاق الحميدة التي لم تكن في أمة من الأمم المتقدمة ))(11) اهـ .
وقال الألوسي رحمه الله تعالى : (( اعلم أن أهل السنة – إلا من شذ – أجمعوا على أن جميع الصحابة عدول يجب على الأمة تعظيمهم ، فقد أخلصوا الأعمال من الرياء نقلاً وفرضاً واجتهدوا في طاعة مولاهم ليرضى وغضوا أبصارهم عن الشهوات غضاً ، فإذا أبصرتهم رأيت قلوباً صحيحة وأجساداً مرضى ، وعيوناً قد ألفت السهر ، فما تكاد تطعم غمضاً بادروا أعمارهم لعلمهم أنها ساعات تنقضي ولله در من قال فيهام شعراً :
لله در أناس أخلصوا عملاً على اليقين ودانوا بالذي أمروا
أولاهم – نعماً فازداد شكرهم ثم ابتلاهم فأرضوه بما صبروا
وفوا له ثم وافوه بما عملوا سيوفيهم يوماً إذا نشروا (12)
فهذه النقول المباركة للإجماع من هؤلاء الأئمة كلها فيها بيان واضح ودليل قاطع على أن ثبوت عدالة الصحابة عموماً أمر مفروغ منه ومسلم فلا يبقى لأحد شك ولا ارتياب بعد تعديل الله ورسوله وإجماع الأمة على ذلك وهناك مذاهب ذهب أصحابها إلى القول بخلاف هذا الإجماع وأصحابها ممن لا يعتد بقولهم ولا غبرة بخلافهم وهي لا تستحق أن تذكر لبيان بطلانها ومجانبتها للحق والصواب ، وتلك المذاهب هي :
(1) مذهب الشيعة :
الشيعة الرافضة يعتقدون أن الصحابة الكرام رضي الله عنهم ليسوا بعدول بل يعتقدون ضلال كل من لم يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على أن الخليفة من بعده بلا فصل هو علي رضي الله عنه ، ويعتقدون أن جميع الناس هلكوا وارتدوا بعد أن قبض النبي صلى الله عليه وسلم إلا نفراً يسيراً منهم يعدون على الأصابع . وسبب تكفيبهم لهم أنهم يزعمون أنهم بايعوا بالخلافة غير علي رضي الله عنه ، ولم يعملوا بالنص عليه ومعتقدهم هذا طافحة به كتبهم فقد روى محمد بن محمد النعمان العكبري البغدادي الملقب بالشيخ المفيد في كتابه الاختصاص عن الحارث بن المغيرة ، قال : سمعت عبد الملك بن أعين يسأل أبا عبد الله عله السلام ، فلم يزل يسأله حتى قال : فهلك الناس إذاً ، فقال : أي والله يا ابن أعين هلك الناس أجمعون ، قلت أهل الشرق والغرب ؟ قال : إنها فتحت على الضلال أي والله هلكوا إلا ثلاثة نفر سلمان الفارسي وأبو ذر والمقداد ولحقهم عمار وأبو ساسان الأنصاري(13) وحذيفة وأبو عمرة (14) فصاروا سبعة .
وفي رواية بعدها أنه قال : ارتد الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة نفر : المقداد ابن الأسود وأبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي ، ثم إن الناس عرفوا ولحقوا بعد(15) .
ولا شك أن من اعتقد كفر الصحابة وارتدادهم أنه كافر لأنه لم يبق له أي علاقة في الدين لأن الكتاب والسنة إنما تلقاهما من جاء بعد الصحابة من الصحابة فمن اعتقد هذا المعتقد في خيار الخلق بعد النبيين والمرسلين ماذا بقي له من الدين ؟
وبناءً على ذلك المعتقد الفاسد الذي يعتقده الشيعة الرافضة في الصحابة رضي الله عنهم ، يكون من البعيد جداً أن يقولوا بعدالة الصحابة بعد أن وصفوهم بالضلال والارتداد عن الإسلام ، وهذا المذهب يحكم ببطلانه وضلال أهله كل من ألقى السمع لما ذكر في كتابه وذكره ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وما قام عليه إجماع أهل الحق ممن يعتد بقوله من بيان مكانة الصحابة الكرام رضي الله عنهم وكل ما قدمنا من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية كلها تقضي بفساد هذا المذهب وخبث قائله وسوء ما تنطوي عليه سرائرهم في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والناظر بعين البصيرة في شبههم التي يبنون عليها معتقدهم هذا يجد أنها من زخرف القول تارة يقولونها من عند أنفسهم ، وتارة ينسبونها إلى أهل البيت وهم رضي الله عنهم بريئون من هذا المعتقد ويتبرءون من كل من استطال لسانه على الصحابة بالسباب والشتائم ، فقد كان موقف أهل بيت النبوة من الصحابة الكرام هو أنهم كانوا في مقدمة العاملين بقوله جل وعلا : { وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } (16) . وكانوا ينكرون على من يزعم التشيع لهم ولا يعمل بما دلت عليه هذه الآية ويدعون عليهم ويطردونهم من مجالسهم ويتوعدونهم بالخروج من الإسلام .
فقد ذكر القرطبي : أن محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنه الله عنهم روى عن أبيه ، أن نفراً من أهل العراق جاءوا ليه فسبوا أبا بكر وعمر – رضي الله عنه الله عنهما – ثم عثمان رضي الله عنه الله عنه ، فأكثروا ، فقال لهم : أمن المهاجرين الأولين أنتم ؟ ، قالوا : لا . فقال : أفمن الذين تبؤوا الدار والإيمان من قبلهم ؟ ، فقالوا : لا . فقال : قد تبرأتم من هذين الفريقين ، أنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله – عز وجل – : { وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } قوموا فعل الله بكم وفعل .
وذكر أيضاً : عن جعفر بن محمد بن علي عن أبيه عن جده علي بن الحسين رضي الله عنه أنه جاءه رجل فقال له : يا ابن بنت رسول الله ما تقول في عثمان ؟ فقال له : يا أخي أنت من قوم قال الله فيهم : { لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ } الآية ، قال : لا ، قال : فوالله لئن لم تكن من أهل الآية فأنت من قوم قال الله فيهم : { وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ } الآية . قال : لا ، قال : فوالله لئن لم تكن من أهل الآية الثالثة لتخرجن من الإسلام وهي قوله تعالى : { وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ }(17) .
فمذهب الشيعة الرافضة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مذهب باطل بنص كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة حيث دلت هذه الأدلة كلها على عدالة جميع الصحابة صغيرهم وكبيرهم ذكراناً وإناثاً .
* (2) مذهب المعتزلة :
أما المعتزلة فقد اضطربت آراؤهم في عدالة الصحابة إلى ثلاثة أقوال وإليك هذه الأقوال الثلاثة مع اقتران كل قول ببيان بطلانه :
القول الأول :
ذهب جمهورهم إلى أن الصحابة كلهم عدول إلا من قاتل علياً ، فالجمهور منهم صوبوا علياً في حروبه وخطئوا من قاتله فنسبوا طلحة والزبير وعائشة ومعاوية إلى الخطأ(18) وانتفاء العدالة عنهم وأسوق الرد على هذا القول ببعض ما قرره أهل العلم من أهل السنة والجماعة فيما يجب على المسلم اعتقاده حيال ما جرى بين الصحابة من الشجار:
فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية : (( وكذلك نؤمن بالإمساك عما شجر بينهم ونعلم أن بعض المنقول في ذلك كذب وهم كانوا مجتهدين إما مصيبين لهم أجران ، أو مثابين على عملهم الصالح مغفور لهم خطؤهم وما كان لهم من السيئات – وقد سبق لهم من الله الحسنى – فإن الله يغفر لهم ، إما بتوبة أو بحسنات ماحية ، أو مصائب مكفرة أو غير ذلك ، فإنهم خير قرون هذه الأمة … وهذه خير أمة أخرجت للناس ، ونعلم مع ذلك أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان أفضل وأقرب إلى الحق من معاوية وممن قاتله معه لما ثبت عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( تمرق مارقة على حين فرقة على المسلمين تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق )) (19) ، وفي هذا الحديث دليل على أنه مع كل طائفة حق ، وأن علياً رضي الله عنه الله عنه أقرب إلى الحق )) اهـ(20) .
وقال الحافظ ابن كثير مبيناً فساد معتقد المعتزلة في عدالة الصحابة (( وقول المعتزلة الصحابة عدول إلا من قاتل علياً قول باطل مرذول ومردود وقد ثبت في صحيح البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال عن ابن بنته الحسين بن علي وكان معه على المنبر : (( إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ))(21) وظهر مصداق ذلك في نزول الحسن لمعاوية عن الأمر بعد موت أبيه علي واجتمعت الكلمة على معاوية وسمي (( عام الجماعة )) ، وذك سنة أربعين من الهجرة ، فسمي الجميع (( مسلمين )) ، وقال تعالى : { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا }(22) فسماهم (( مؤمنين )) مع الاقتتال ))(23) .
وممن بين بطلان هذا القول الشوكاني رحمه الله تعالى ، فإنه قال في صدد عرضه للأقوال في عدالة الصحابة : (( القول الرابع : أنهم كلهم عدول إلا من قاتل علياً وبه قال جماعة من المعتزلة والشيعة ، ويجاب عنه بأن تمسكهم بما تمسكوا به من الشبه يدل على أنهم لم يقدموا على ذلك جراءة على الله ، وتهاوناً بدينه ، وجناب الصحابة أمر عظيم ، فمن انتهك أعراض بعضهم فقد وقع في هوة لا ينجو منها سالماً ، وقد كان في أهل الشام صحابة صالحون عرضت لهم شبه لولا عروضها لم يدخلوا في تلك الحروب ولا غمسوا فيها أيديهم ، وقد عدلوا تعديلاً عاماً بالكتاب والسنة فوجب علينا البقاء على عموم التعديل والتأويل لما يقتضي خلافه )) (24) .
فهذا القول الذي قاله جمهور المعتزلة من نفي العدالة عمن قاتل علياً من الصحابة قول باطل لأن الحروب التي جرت بينهم كانت لكل طائفة منهم شبهة اعتقدت تصويب نفسها بسببها فكلهم عدول رضي الله عنهم ولم يخرج بشيء من تلك الحروب أحد من العدالة ، لأنهم مجتهدون اختلفوا في مسائل من محل الاجتهاد ، كما يختلف المجتهدون بعدهم في مسائل من الدماء وغيرها ولا يلزم من ذلك نقص أحد منهم رضي الله عنهم )) (25) .
القول الثاني : قول واصل بن عطاء :
فقد ذهب إلى أن أحد الفريقين المتخاصمين من الصحابة في موقعتي الجمل وصفين كان مخطئاً لا بعينه كالمتلاعنين ، فإن أحدهما فاسق لا محالة (( وأقل درجات الفريقين أنه غير مقبول الشهادة كما لا تقبل شهادة المتلاعنين ))(26) ، وبناه على معتقده هذا فإنه لم يحكم بشهادة رجلين أحدهما من أصحاب علي والآخر من أصحاب الجمل فقد قال: (( لو شهدت عندي عائشة وعلي وطلحة على باقة بقل لم أحكم بشهادتهم ))(27) .
وقال بقبول شهادة رجلين من أصحاب علي وشهادة رجلين من أصحاب طلحة والزبير(28) إذ قد يكون أحد الفريقين عدلاً وعلى صواب وهذا الرأي قال به وتبناه ضرار بن عمرو وأبو الهديل ومعمر بن عياد السلمي حيث قالوا جميعاً : (( نحن نتولى كل واحد من الفريقين على انفراد ))(29) .
وهذا القول كما هو واضح أصحابه قد شكوا في عدالة علي وطلحة والزبير وهو قول ظاهر البطلان وهو أحقر من أن يرد عليه لأن عدالة علي وطلحة والزبير وغيرهم من الصحابة ثابتة بتعديل الله ورسوله إياهم ، وبإجماع من قوله معتبر من أهل السنة والجماعة وكفى بعلي وطلحة والزبير شرفاً ورفعة أنهم من أصحاب الجنة بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم لهم بذلك ، وإضافة إلى تلك المنزلة الرفيعة دخولهم في أهل بيعة الرضوان الذين عدلهم الله وزكاهم من فوق سبع سموات بقوله – جل وعلا – { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا }(30) فأي تعديل وأي شرف أعظم لمن كان من جملة هؤلاء ، فمن تجرأ على تجريح هؤلاء فهو الجدير بالجرح وهو الأولى به ، ومن قال بكفرهم فهو الكافر وهو من الذين ضلوا عن سواء السبيل .
* القول الثالث : قول عمرو بن عبيد :
أما عمرو بن عبيد فإنه تقدم خطوة أخرى على من تقدم ذكره من المعتزلة فإنه يعتقد أن الطرفين المتحاربين في موقعتي الجمل والصفين قد فسقوا جميعاً ، وقال : (( لا أقبل شهادة الجماعة منهم سواء كانوا من أحد الفريقين أو كان بعضهم من حزب علي وبعضهم من حزب الجمل ))(31) . وبلغ به الإزراء بهم والتنقص منهم إلى أن قال : (( لو شهد عندي علي وطلحة والزبير وعثمان علي شراك نعل ما أجزت شهادتهم ))(32) .
وهذه الكلمة الخبيثة التي خرجت منه تنبئ عما يكنه لهم من الكراهية وما عود عليه لسانه من سبهم وشتمهم وهذه الكلمة لا يجرؤ أن ينطق بها من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان .
وقد ذكر الشوكاني رحمه الله تعالى مذهب عمرو بن عبيد وتولى الرد عليه حيث قال : (( القول الثالث : إنهم كلهم عدول قبل الفتن لا بعدها فلا يجب البحث عنهم ، وأما بعدها فلا يقبل الداخلون فيها مطلقاً – أي من الطرفين – لأن الفاسق من الفريقين غير معين وبه قال عمرو بن عبيد من المعتزلة ، ثم قال رحمه الله مبيناً بطلان هذا القول – : (( وهذا القول في غاية الضعف لاستلزامه إهدار غالب السنة فإن المعتزلين لتلك الحروب هم طائفة يسيرة بالنسبة إلى الداخلين فيها ، وفيه أيضاً : أن الباغي غير معين من الفريقين وهو معين بالدليل الصحيح ، وأيضاً التمسك بما تمسكت به كل طائفة يخرجها من إطلاق اسم البغي عليها علي تسليم الباغي من الفريقين غير معين )) اهـ(33) .
ويرد عليه أيضاً : أن الواجب على كل مسلم (( أن يحمل كل ما جرى منهم من الفتن على أحسن حال وإن كان ذلك إنما لما أدى إليه اجتهاد كل فريق من اعتقاده أن الواجب ما صار إليه ، وأنه أوفق للدين وأصلح للمسلمين وعلى هذا ، فإما أن يكون كل مجتهد مصيباً ، أو أن المصيب واحد والآخر مخطئ في اجتهاده ، وعلى كلا التقديرين فالشهادة والرواية من الفريقين لا تكون مردودة ))(34) .
فقول عمرو بن عبيد في عدالة الصحابة قول ظاهر البطلان ومردود عليه .
* المذهب الثالث :
أن حكمهم في العدالة حكم من بعدهم في لزوم البحث عن عدالتهم عند الرواية(35) ، وقد عزا هذا القول السخاوي والشوكاني إلى أبي الحسين بن القطان(36) من علماء الشافعية .
وشبهته أنه قال : (( فوحشي قتل حمزة وله صحبة . والوليد شرب الخمر فمن ظهر عليه خلاف العدالة لم يقع عليه اسم الصحبة والوليد ليس بصحابي لأن الصحابة إنما هم الذين كانوا على طريقته ))(37) .
وهذه الشبهة حكم عليها السخاوي بأنها ساقطة إذ الكل أصحابه باتفاق وقتل وحشي لحمزة كان قبل إسلامه ثم أسلم ، وليس ذلك مما يقدح به فالإسلام يجب ما قبله وأما قوله : والوليد ليس بصحابي – إلخ كلامه – فلم يقل قائل من أهل العلم إن ارتكاب المعصية يخرج من كان صحابياً عن صحبته وقد كف النبي صلى الله عليه وسلم من لعن بعضهم بقوله : (( لا تلعنوه فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله ))(38) . كما كف عمر عن حاطب رضي الله عنه – لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم (( إنه شهد بدراً وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ))(39) لا سيما وهم مخلصون في التوبة فيما لعله صدر منهم ، والحدود كفارات ، بل قيل في الوليد بخصوصه : إن بعض أهل الكوفة تعصبوا عليه فشهدوا عليه بغير الحق وبالجملة فترك الخوض في هذا ونحوه متعين ))(40) .
فقول أبي الحسين القطان قول لا يعتد به إذ هو في هذه المسألة أحد الأقوال التي جانبت الصواب .
* المذهب الرابع :
أن العدالة لا تثبت إلا لمن لزم النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه دون من رآه ، أو زاره ، أو وفد عليه لمدة قليلة وهذا قول المازري من علماء المالكية ـ فقد حكى عنه الحافظ بن حجر أنه قال : (( في شرح البرهان لسنا نعني بقولنا الصحابة عدول كل من رآه صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم يوماً ما أو زاره لماماً أو اجتمع به لغرض وانصرف عن كثب وإنما نعني به الذين لازموه وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون ))(41).
ويرد على كلام المازري بأنه لم يوافق عليه بل اعترضه جماعة من الفضلاء – كما قال الحافظ ابن حجر – وذكر أن الشيخ صلاح الدين العلائي قال (( هو غريب يخرج كثيراً من المشهورين بالصحبة والرواية عن الحكم بالعدالة كوائل بن حجر ومالك بن الحويرث وعثمان بن أبي العاص وغيرهم ممن وفد عليه صلى الله عليه وسلم ولم يقم عنده إلا قليلاً وانصرف وكذلك من لم يعرف إلا برواية الحديث والواحد ولم يعرف مقدار إقامته من أعراب القبائل والقول بالتعميم هو الذي صرح به الجمهور وهو المعتبر والله – سبحانه وتعالى – أعلم )) اهـ(42) .
فقول المازري هذا غير معتبر وهو قول ضعيف كما هو واضح ولاستلزامه إخراج جماعة من خيار الصحابة الذين أقاموا مع النبي صلى الله عليه وسلم قليلاً ثم انصرفوا(43) منهم من ذكر في قول صلاح الدين العلائي .
فهذه هي المذاهب التي خالف فيها أصحابها إجماع أهل السنة والجماعة في مسألة عدالة الصحابة وهي كما رأينا مبنية على شبه واهية لا تزيدها إلا ضعفاً ، فالواجب على المسلم أن يعتقد ما اعتقدته الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة من أن عموم الصحابة عدول ويحرم على كل إنسان ثلبهم بما يشينهم ، ولا عبرة بخلاف من خالف في ذلك من الطوائف المخذولة أهل البدع والأهواء مثل الرافضة والمعتزلة والزنادقة وغيرهم ولا من سلك طريقهم في العصر الحديث من الكفرة المستشرقين الذين يزعمون أنهم يعتنون بالدراسات الإسلامية والبحث فيها هم ومن قلدهم من أبناء المسلمين الواقعين في حرمات الله باسم حرية البحث العلمي ويقولون إن كل إنسان له أن يقول ما يشاء حتى ولو كان في ذلك اعتداء على حرمات المؤمنين وتكذيب القرآن الكريم وسند سيد المرسلين تحت ستار حرية الرأي والبحث ، وهذا الاتجاه مرفوض عند علماء المسلمين حيث أن للعلم قواعد وأصول وضوابط شرعية يلتزم بها المؤمن حتى يكون بحثه واجتهاده في نطاقها ، أما حرية البحث التي فتن بها أهل الأهواء ممن ينتسبون إلى الإسلام وقلدوا فيها الأعداء وطبقوها حسب ما تلقوها ، فليست من سنن المؤمنين ولا سبيل المسلمين ، ولذلك كانت بحوثهم مناقضة للقواعد الشرعية والأحكام الإسلامية فالذين يجرحون الصحابة ويطعنون في عدالتهم إنما غرضهم من وراء ذلك هو التشكيك في الإسلام ، وهدم قواعده التي قام عليها ، وهذا ما فطن له أبو زرعة الرازي في القرن الثالث الهجري فقد روى الخطيب البغدادي بإسناده إلى أبي زرعة الرازي أنه قال : (( إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق وذلك أن الرسول عندنا حق والقرآن حق وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة ، و الجرح بهم أولى وهم زنادقة ))(44) .
فقد صدق رحمه الله فلا يتجرأ على تجريح الصحابة إلا مجروح فتح لنفسه باباً يلج منه إلى الزندقة ، فمن يرد السلامة لدينه فعليه أن يعتقد ما اعتقده أهل السنة والجماعة في عدالة الصحابة وهو أنهم كلهم عدول من لابس الفتن ومن لم يلابسها ، وهذا هو المذهب الحق الذي يجب المصير إليه ، وما أحسن ما قاله الإمام الذهبي رحمه الله تعالى في هذه المسألة حيث قال : (( فأما الصحابة رضي الله عنهم فبساطهم مطوي وإن جرى ما جرى إذ على عدالتهم وقبول ما نقلوه العمل وبه ندين الله تعالى(45) .
* * *


(1) الكفاية ، ص : 67 .
(2) الاستيعاب على حاشية الإصابة : 1/8 .
(3) فتح المغيث شرح ألفية الحديث : 3/112 ، وذكره السيوطي في (( تدريب الراوي )) : 2/214 .
(4) المستصفى: 1/164 .
(5) مقدمة ابن الصلاح ، ص : 146 – 147 .
(6) شرح النووي على صحيح مسلم : 15/149 .
(7) تقريب النواوي مع شرحه تدريب الراوي : 2/214 .
(8) الباعث الحثيث : ص : 181 – 182 .
(9) شرح ألفية العراقي المسماة بالتبصرة والتذكرة : 3/13 – 14 .
(10) الإصابة : 1/17 .
(11) فتح المغيث : ص 3/8 .
(12) الأجوبة العراقية على الأسئلة اللاهورية : ص ؟؟؟؟ .
(13) هو الصحابي الجليل بشير بن عمر الأنصاري الالنجاري . انظر ترجمته في الاستيعاب : 1/157 ، الإصابة : 4/141 .
(14) هو حصين بن المنذر بن الحارث الرقاقاشي . انظر ترجمته في تهذيب التهذيب : 2/395 .
(15) الروايتان في كتاب (( الاختصاص )) للمفيد ، ص : 6 ، وانظر كتاب (( الروضة )) من الكافي للكليني ، حديث رقم (356) .
(16) سورة الحشر ، آية : 10
(17) الجامع لأحكام القرآن : 18/31 – 32 ، والآية رقم (10) من سورة الحشر .
(18) مقالات الإسلاميين : 2/145 ، الفرق بين الفرق ص 120 – 121 .
(19) انظر الحديث في صحيح مسلم : 2/745 .
(20) مجموع الفتاوى : 3/406 – 407 .
(21) صحيح البخاري : 2/114 .
(22) سورة الحجرات ، آية : 9 .
(23) الباعث الحنيث ، ص : 182 .
(24) إرشاد الفحول ، ص : 70 .
(25) انظر الرد على الرافضة لأبي حامد محمد المقدسي ، ص : 316 – 317 .
(26) انظر الملل والنحل للشهرستاني : 1/49 .
(27) ميزان الاعتدال للذهبي : 4/329 ، وانظر الفرق بين الفرق ، ص 120 ، الملل والنحل للشهرستاني : 1/49 .
(28) انظر الفرق بين الفرق ، ص : 120 ، ص : 220 .
(29) مقالات الإسلاميين : 2/145 .
(30) سورة الفتح ، آية : 18 .
(31) انظر الفرق بين الفرق ، ص : 121 ، التبصر في الدين ، ص 69 ، الملل والنحل للشهرستاني : 1/49 .
(32) ميزان الاعتدال : 3/275 .
(33) إرشاد الفحول : ص 70 .
(34) الإحكام في أصول الأحكام للآمدي : 1/274 .
(35) المصدر السابق : 1/274 ، شرح مختصر المنتهى : 2/67 .
(36) هو أحمد بن محمد بن أحمد القطان البغدادي من كبار الشافعية له مصنفات لي أصول الفقه وفروعه ، توفي سنة تسع وخمسين وثلاثمائة . انظر ترجمته في تاريخ بغداد : 4/365 ، تهذيب الأسماء واللغات للنووي : 2/214 – 215 .
(37) انظر فتح المغيث شرح ألفية الحديث للسخاوي : 3/112 ، إرشاد الفحول للشوكاني ، ص 69 .
(38) صحيح البخاري : 3/172 ، من حديث عمر رضي الله عنه الله عنه .
(39) صحيح البخاري : 3/7 ، صحيح مسلم : 4/1942 ، من حديث علي رضي الله عنه الله عنه .
(40) فتح المغيث شرح ألفية الحديث : 3/112 – 113 .
(41) الإصابة في تمييز الصحابة : 1/19 .
(42) الإصابة : 1/19 – 20 ، فتح المغيث شرح ألفية الحديث : 3/113 – 114 .
(43) انظر ارشاد الفحول للشوكاني ، ص : 70 .
(44) الكفاية ، ص : 67 .
(45) الرواة المتكلم فيهم بما لا يوجب الرد ، ص : 46 .

بحث سريع