أدلة عدالة الصحابة في الكتاب والسنة

بواسطة | د. ناصر بن علي الشيخ
2005/03/24
لقد تضافرت الأدلة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على تعديل الصحابة الكرام رضي الله عنهم ، مما لا يبقى معها شك لمرتاب في تحقيق عدالتهم ، فكل حديث له سند متصل بين من رواه وبين المصطفى صلى الله عليه وسلم لم يلزم العمل به إلا بعد أن تثبت عدالة رجاله ، ويجب النظر في أحوالهم سوى الصحابي الذي رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأن عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم وإخباره عن طهارتهم واختياره لهم بنص القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ومن ذلك :
(1) قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا }([1])
ووجه الاستدلال بهذه الآية على عدالة الصحابة رضي الله عنهم أن وسطاً بمعنى (( عدولاً خياراً )) ([2])، ولأنهم المخاطبون بهذه الآية مباشرة .
وقد ذكر بعض أهل العلم أن اللفظ وإن كان عاماً إلا أن المراد به الخصوص ، وقيل : (( إنه وارد في الصحابة دون غيرهم )) ([3]).
وقد بين الرازي المعنى لقوله تعالى في الآية : { وَسَطًا } من وجوه :
أحدها : أن الوسط حقيقة في البعد عن الطرفين فكان معتدلاً فاضلاً .
الثاني : إنما سمي العدل وسطاً لأنه لا يميل إلى أحد الخصمين والعدل هو : المعتدل الذي لا يميل إلى أحد الطرفين .
الثالث : لا شم أن المراد بقوله : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } طريقة المدح لهم لأنه لا يجوز أن يذكر الله تعالى وصفاً ويجعله كالعلة في أن جعلهم شهوداً له ، ثم يعطف على ذلك شهادة الرسول إلا وذلك مدح فثبت أن المراد بقوله وسطاً : ما يتعلق بالمدح في باب الدين ولا يجوز أن يمدح الله الشهود حال حكمه عليهم بكونهم شهوداً إلا بكونهم عدولاً ، فوجب أن يكون المراد من الوسط العدالة .
الرابع : أن أعدل بقاع الشيء وسطه لأن حكمه مع سائر أطرافه على سواء وعلى اعتدال ، والأطراف يتسارع إليها الخلل والفساد والأوساط محمية محوطة ، فلما صح ذلك في الوسط صار كأنه عبارة عن المعتدل الذي لا يميل إلى جهة دون جهة )) ([4]) اهـ .
فالآية ناطقة بعدالة الصحابة رضي الله عنهم قبل غيرهم ممن جاء بعدهم من هذه الأمة .
(2) قوله تعالى { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ }([5]).
ووجه دلالة هذه الآية على عدالة الصحابة رضي الله عنهم أنها أثبتت الخيرية المطلقة لهذه الأمة على سائر الأمم قبلها وأول من يدخل في هذه الخيرية المخاطبون بهذه الآية مباشرة عند النزول وهم الصحابة الكرام رضي الله عنهم ، وذلك يقتضي استقامتهم في كل حال وجريان أحوالهم على الموافقة دون المخالفة ، ومن البعيد أن يصفهم الله – عز وجل – بأنهم خير أمة ولا يكونوا أهل عدل واستقامة ، وهل الخيرية إلا بذلك ، كما أنه لا يجوز أن يخبر الله تعالى بأنه جعلهم أمة وسطاً – أي : عدولاً – وهم على غير ذلك .
والخطاب في هاتين الآيتين وإن كان موجهاً لمن كان موجوداً مع النبي صلى الله عليه وسلم وقت نزول الآيتين إلا أنه يشمل جميع الأمة ويكون الصحابة هم أولى الناس بالدخول فيه لما لهم من المآثر الجليلة والأعمال الخيرية النبيلة التي جعلتهم أهلاً لأن يتصفوا بتلك الواردة في الآيتين .
قال الشاطبي([6]) رحمة الله تعالى : سنة الصحابة رضي الله عنهم سنة يعمل عليها ويرجع إليها ، ومن الدليل على ذلك أمور :
أحدهما : ثناء الله عليهم من غير مثنوية ومدحهم بالعدالة وما يرجع إليها كقوله تعالى { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } ، وقوله { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } ، ففي الآية الأولى : إثبات الأفضلية على سائر الأمم ، وذلك يقضي باستقامتهم في كل حال ، وجريان أحوالهم على الموافقة دون المخالفة .
وفي الثانية : إثبات العدالة مطلقاً ، وذلك يدل على ما دلت عليه الأولى .
ولا يقال إن هذا عام في الأمة ، فلا يختص بالصحابة دون من بعدهم لأنا نقول :
أولاً : ليس كذلك بناء على أنهم المخاطبون على الخصوص ولا يدخل معهم من بعدهم إلا بقياس وبدليل آخر .
ثانياً : على تسليم التعميم أنهم أول داخل في شمول الخطاب ، فإنهم أول من تلقى ذلك من الرسول عليه الصلاة والسلام وهم المباشرون للوحي .
ثالثاً : أنهم أولى بالدخول من غيرهم ، إذ الأوصاف التي وصفوا بها لم يتصف بها على الكمال إلا هم ، فمطابقة الوصف للانصاف شاهد على أنهم أحق من غيرهم بالمدح ، وأيضاً : فإن من بعد الصحابة من أهل السنة عدلوا الصحابة على الإطلاق والعموم فأخذوا عنهم رواية ودراية من غير استثناء ، ولا محاشاة ، بخلاف غيرهم فلم يعتبروا منهم إلا من صحت إمامته وثبتت عدالته وذلك مصدق لكونهم أحق بذلك المدح من غيرهم ، فيصح أن يطلق على الصحابة أنهم خير أمة بإطلاق ، وأنهم وسط ، أي عدول بإطلاق ، وإذا كان كذلك فقولهم معتبر وعملهم مقتدى به([7]) .
(3) قوله تعالى : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } ([8]) .
ففي هذه الآية وصف الله تعالى عموم المهاجرين والأنصار بالإيمان الحق ومن شهد الله له بهذه الشهادة فقد بلغ أعلى مرتبة العدالة .
(4) قوله تعالى : { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } ([9]).
ووجه دلالة هذه الآية على عدالتهم رضي الله عنهم أن الله تعالى أخبر فيها برضاه عنهم ولا يثبت الله رضاه إلا لمن كان أهلاً للرضا ، ولا توجد الأهلية لذلك إلا لمن كان من أهل الاستقامة في أموره كلها عدلاً في دينه .
ومن أثنى الله تعالى عليه بهذا الثناء كيف لا يكون عدلاً وإذا كان التعديل يثبت بقول اثنين من الناس فكيف لا تثبت عدالة صفوة الخلق وخيارهم بهذا الثناء الصادر من رب العالمين .
(5) قوله تعالى : { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا } ([10]) .
وهذه الآية فيها دلالة واضحة على تعديل الصحابة الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ، وقد تقدم ذكر عدتهم وأنهم كانوا ألفاً وأربعمائة ووجه دلالة الآية على تعديلهم رضي الله عنهم أن – الباري جل وعلا – أخبر برضاه عنهم ، وشهد لهم بالإيمان وزكاهم بما استقر في قلوبهم من الصدق والوفاء والسمع والطاعة لا تصدر تلك التركيبة العظيمة من – الرب جل وعلا – إلا لمن بلغ الذروة في تحقيق الاستقامة على وفق ما أمر الله به والصحابة رضي الله عنهم كانوا في مقدمة من استقاموا في جميع الأحوال .
فالآية فيها بيان أن طاعة الله والرسول وجدت من أهل بيعة الرضوان أما طاعة الله فالإشارة إليها بقوله { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ } ، وأما طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فبقول : { إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ } بقي الموعود به وهو إدخال الجنة وأشار إليه بقوله تعالى : { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ } لأن الرضا يكون معه إدخال الجنة ، كما قال – عز وجل – { وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ } ([11])
(6) قوله تعالى : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا }([12]).
فهذا الوصف الذي وصفهم الله به في كتبه ، وهذا الثناء الذي أثنى به عليهم لا يتطرق إلى النفس معه شك في عدالتهم ؟
قال القرطبي رحمه الله تعالى عند تفسيره لهذه الآية : (( فالصحابة كلهم عدول ، أولياء الله تعالى وأصفياؤه ، وخيرته من خلقه بعد أنبيائه ورسله ، هذا مذهب أهل السنة والذي عليه الجماعة من أئمة هذه الأمة ، وقد ذهبت شرذمة لا مبالاة بهم إلى أن الصحابة حالهم كحال غيرهم ، فيلزم البحث عن عدالتهم ، ومنهم من فرق بين حالهم بداءة الأمر ، فقال : إنهم كانوا على العدالة إذ ذاك ، ثم تغيرت بهم الأحوال ، فظهرت فيهم الحروب وسفك الدماء ، فلابد من البحث وهذا مردود فإن خيار الصحابة وفضلاءهم كعلي وطلحة والزبير وغيرهم رضي الله عنهم ممن أثنى الله عليهم وزكاهم ورضي عنهم وأرضاهم ووعدهم الجنة بقوله تعالى : { مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } ، وخاصة العشرة المقطوع لهم بالجنة بإخبار الرسول هم القدوة مع علمهم بكثير من الفتن والأمور الجارية عليهم بعد نبيهم بإخباره لهم بذلك وذلك غير مسقط من مرتبتهم وفضلهم إذ كانت تلك الأمور مبنية على الاجتهاد([13]) .
(7) قوله تعالى { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ } ([14]) .
فالصحابة رضي الله عنهم هم السابقون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى كل خير ، وإلى تحصيل كل قربة فيها رضى الرب جل وعلا ، ولا يصدر ذلك إلا من تحقق بوصف العدالة .
قال أبو محمد بن حزم بعد أن ذكر أفضلية جماعات الصحابة حسب سبقهم إلى الإسلام وحسب المشاهد ، قال : (( فكل من تقدم ذكره من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم إلى تمام بيعة الرضوان فإنا نقطع على غيب قلوبهم وأنهم كلهم مؤمنون صالحون ، ماتوا على الإيمان والهدى والبر كلهم من أهل الجنة لا يلج أحد منهم التار البتة لقول الله تعالى : { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ } ، وقوله تعالى : { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ }([15]) الآية – إلى أن قال : – فمن أخبر الله عنهم بذلك فلا يحل لأحد أن يتوقف في أمرهم ولا الشك فيهم البتة([16]).
(8) قوله تعالى : { لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) }([17]).
فالصادقون هم المهاجرون ، والمفلحون هم الأنصار ، بهذا فسر أبو بكر الصديق هاتين الكلمتين من الآيتين حيث قال في خطبته يوم السقيفة مخاطباً الأنصار : (( إن الله سمانا (الصادقين) وسماكم ( المفلحين ) ، وقد أمركم أن تكونوا حيثما كنا ، فقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ }([18]) ، فهذه الصفات الحميدة في هاتين الآيتين كلها حققها المهاجرون والأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واتصفوا بها ولذلك ختم الله صفات المهاجرين بالحكم بأنهم صادقون وختم صفات الذين آزروهم ونصروهم وآثروهم على أنفسهم بأنهم بالحكم لهم بأنهم مفلحون ، وهذه الصفات العالية لا يمكن أن يحققها قوم ليسوا بعدول .
فهذه الآيات التي أسلفناها من الآيات البينة الدالة على عدالة الصحابة رضي الله عنه الله عنهم ، فعدالتهم ثابتة بنص القرآن .
* وأما دلالة السنة على تعديلهم رضي الله عنهم :
فقد وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث يطول تعدادها وأطلب في تعظيمهم وأحسن الثناء عليهم بتعديلهم ومن تلط الأحاديث :
(1) ما رواه الشيخان في صحيحهما من حديث أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( … ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب )) الحديث([19]) .
وجه دلالة الحديث على عدالتهم رضي الله عنهم أن هذا القول صدر من النبي صلى الله عليه وسلم في أعظم جمع من الصحابة في حجة الوداع وهذا من أعظم الأدلة على ثبوت عدالتهم حيث طلب منهم أن يلغوا ما سمعوه منه من لم يحضر ذلك الجمع دون أن يستثني منهم أحداً .
قال ابن حبان رحمه الله تعالى : (( وفي قوله صلى الله عليه وسلم : (( ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب )) أعظم دليل على أن الصحابة كلهم عدول ليس فيهم مجروح ولا ضعيف إذ لو كان فيهم أحد غير عدل لاستثنى في قوله صلى الله عليه وسلم وقال : ألا ليبلغ فلان منكم الغائب فلما أجملهم في الذكر بالأمر بالتبليغ من بعهم دل ذلك على أنهم كلهم عدول وكفى بمن عدله رسول الله صلى الله عليه وسلم شرفاً )) ([20]) اهـ .
(2) روى الشيخان في صحيحهمت من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم )) قال عمران : فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثاً .. الحديث([21]) .
(3) روى البخاري بإسناده إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته )) ([22]).
(4) وروى بإسناده إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ، قال : صلينا المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قلنا : لو جلسنا حتى نصلي معه العشاء ، قال : فجلسنا ، فَخَرج علينا فقال : (( ما زلتم هنا )) ، قلنا : يا رسول الله ، صلينا معك المغرب ، ثم قلنا : نجلس حتى نصلي معك العشاء ، قال : (( أحسنتم أو أصبتم ) ، قال : فرفع رأسه إلى السماء وكان كثيراً ما يرفع رأسه ، فقال : (( النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد ، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون ، وأصحابي أمنة لأمتي ، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون )) ([23]).
هذه الثلاثة الأحاديث فيها دلالة واضحة على أن الصحابة عدول على الإطلاق حيث شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخيرة المطلقة كما أخبر بأنهم أمان للأمة من ظهور البدع والحوادث في الدين ولا يخبر صلى الله عليه وسلم بهذا إلا لمن كانوا عدولاً مستقيمين على الصراط المستقيم .
(5) روى البخاري بإسناده إلى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( لا تسبوا أصحابي فلو كان أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه )) ([24]).
وجه الاستدلال بهذا الحديث على عدالة الصحابة رضي الله عنهم (( أن الوصف لهم بغير العدالة سب لا سيما وقد نهى صلى الله عليه وسلم بعض من أدركه وصحبه عن التعرض لمن تقدمه لشهود المواقف الفاضلة فيكون من بعدهم بالنسبة لجميعهم من باب أولى([25]).
فالصحابة كلهم عدول بتعديل الله لهم وثنائه عليهم ، وثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم ، فليسوا بحاجة إلى تعديل أحد من الخلق .
قال الخطيب البغدادي في كتابه الكفاية([26]) : ((باب ما جاء في تعديل الله ورسوله للصحابة وأنه لا يحتاج إلى سؤال عنهم وإنما يجب فيمن دونهم – ثم قال – : كل حديث اتصل إسناده بين من رواه وبين النبي صلى الله عليه وسلم لم يلزم العمل به إلا بعد ثبوت عدالة رجاله ويجب النظر في أحوالهم سوى الصحابي الذي رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم وإخباره عن طهارتهم واختياره لهم في نص القرآن )) .
ثم ساق جملة من الآيات الدالة على ذلك وقد سبق لنا قريباً ذكر بعضها وكذلك جملة من الأحاديث إلى أن قال : (( والأخبار في هذا المعنى تتسع وكلها مطابقة لما ورد في نص القرآن ، وجميع ذلك يقتضي طهارة الصحابة والقطع على تعديلهم ونزاهتهم فلا يحتاج أحد منهم مع تعديل الله تعالى لهم المطلع على بواطنهم إلى تعديل أحد من الخلق له )) .
ثم قال : (( على أنه لو لم يرد من الله – عز وجل – ورسوله فيهم شيء مما ذكرناه لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة والجهاد والنصرة وبذل المهج والأموال وقتل الآباء والأولاد ، والمناصحة في الدين وقوة الإيمان واليقين على عدالتهم والاعتقاد لنزاهتهم ، وأنهم أفضل من جميع المعدلين والمزكين الذين يجيئون بعدهم أبد الآبدين )) .
فلقد صدق رحمة الله تعالى لو لم تكن عدالتهم منصوصاً عليها في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم لجزم أهل العقول الصحيحة والقلوب السليمة بعدالتهم استناداً إلى ما تواترت به الأخبار عنهم من الأعمال الجليلة والخيرات الوفيرة التي قدموها لنصرة الدين الحنيف ، فقد بذلوا ما أمكنهم بذله في سبيل نصرة الحق ورفع رايته وإرساء قواعده ونشر أحكامه في جميع الأقطار رضي الله عنهم أجمعين .
والعدالة المرادة هنا ليس المقصود بها عدم الوقوع في الذنوب والخطايا فإن هذا لا يكون إلا لمعصوم .
قال ابن الأنباري : (( وليس المراد بعدالتهم ثبوت العصمة لهم واستحالة المعصية منهم ، وإنما المراد قبول رواياتهم من غير تكلف البحث عن أسباب العدالة وطلب التزكية إلا أن ثبت ارتكاب قادح ولم يثبت ذلك ولله الحمد فنحن على استصحاب ما كانوا عليه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يثبت خلافه ، ولا التفات إلى ما يذكره أهل السير ، فإنه لا يصح ، وما صح فله تأويل صحيح )) ([27]).



([1]) سورة البقرة آية : 143 .
([2]) انظر جامع البيان للطبري : 2/7 ، الجامع لأحكام القرآن : 2/153 ، تفسير القرآن العظيم لابن كثير : 1/335 .
([3]) انظر الكفاية للخطيب البغدادي ، ص : 64 .
([4]) تفسير الرازي : 4/97 .
([5]) سورة آل عمران ، آية : 110 .
([6]) هو : إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي المالكي الشهير بالشاطبي ، أبو إسحاق ، محدث ، فقيه ، أصولي ، لغوي ، مفسر ، مات في شعبان سنة تسعين وسبعمائة .
انظر ترجمته في (( فهرس الفهارس )) : 1/134 ، الأعلام للزركلي : 1/71 ، معجم المؤلفين : 1/118 .
([7]) الموافقات : 4/40 – 41 .
([8]) سورة الأنفال ، آية : 74 .
([9]) سورة التوبة ، آية : 100 .
([10]) سورة الفتح آية : 18 .
([11]) انظر التفسير الكبير للرازي : 28/95 ، والآية من سورة المجادلة .
([12]) سورة الفتح آية : 29 .
([13]) الجامع لأحكام القرآن : 16 / 299 .
([14]) سورة الواقعة ، آية : 10 – 12 .
([15]) سورة الفتح ، آية 18 .
([16]) ابن حزم الأندلسي ورسالته في المفاضلة بين الصحابة ، ص 265 – 266 .
([17]) سورة الحشر ، آية : 8 – 9 .
([18]) العواصم من القواصم ، لابن العربي ، ص : 44 – 45 ، والآية رقم : (119) من سورة التوبة .
([19]) صحيح البخاري : 1/31 ، صحيح مسلم : 3/1306 .
([20]) الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان : 1 / 91 .
([21]) صحيح البخاري : 2/287 ، صحيح مسلم : 4/1964 .
([22]) صحيح البخاري : 2/288 ، وانظر صحيح مسلم : 4/1963 .
([23])صحيح مسلم : 4/1961 .
([24]) صحيح البخاري : 2/292 .
([25]) فتح المغيث شرح ألفية الحديث : 3/110 – 11 .
([26]) ص : 63 – 67 .
([27]) فتح المغيث : 3 / 115 .

بحث سريع