“الرايات السوداء” لنجيب الكيلاني

بواسطة |  يحيى بشير حاج يحيى
2005/04/05
رواية تاريخية هي آخر ما نشر للراحل نجيب الكيلاني وقد نشرت بعد وفاته.
عن دار البشير في طنطا، بمصر صدرت هذه الرواية في طبعتها الأولى 2002م في 234 صفحة من القطع المتوسط .{mosimage}
وهي تتحدث عن قيام الدولة العباسية، ونهاية الدولة الأموية، وما دار من صراع حمل أكثر من لون، وملخصها: أن أحد أعوان بني أمية (إبراهيم بن سليمان) اختفى عن الأنظام خوفاً من نقمة العباسيين، فألجأته الأقدار إلى دار رجل في الكوفة (علي بن أبي أميمة) كان قد قتل أباه من قبل، فأمنّه على دمه وأخفاه، وكل منهما لا يدري عن صاحبه شيئاً، ثم اكتشف علي أن نزيله هو الشخص الذي يبحث عنه للثأر لأبيه منه؟ فلم يمسه بسوء، وخلى سبيله، ليشفع له عند السفاح بعض جلساء الخليفة الذي أعطاه الأمان وأكرم مثواه؟!
وقد أغنى المؤلف هذه الحادثة بالشخصيات والمواقف، وأدار الصراع سياسياً وعاطفياً واجتماعياً، لأن كتب التاريخ كما يقول المؤلف لا تقول دائماً كل شيء، وإنما درجت على تسجيل الأحداث السياسية والحربية، وتتجاهل الجانب النفسي، ومن هنا يبدأ دور الفنان مع التاريخ فيتناول الإنسان، ويتحدث عن عذابه وقلقه وأحلامه وآماله، فيؤرخ له نفسياً! وقد أبرزت الرواية عدداً من محاور الصراع على مستوى الشخصيات الرئيسة والثانوية.
علي بن أبي أميمة (الشخصية الرئيسة) شاب تاجر متحمس لبني العباس، يحمل شارتهم، ويبحث عن قاتل أبيه، تواجهه زوجته (لمياء) المتفتحة عقلياً بأنها لا ترى في ثورة العباسيين سوى ثورة عصبية، لأنها تبيح دم المسلم، وتلفت نظر زوجها إلى أن الثأر من قاتل أبيه هو مهمة أولي الأمر، وهي لا ترى أحقية لأحد بالخلافة لكونه ينتسب إلى بيت من البيوت؟! كما يواجه صراعاً مع نفسه، وهو يحس بميل نحو جاريته (ياسمين) التي لا تقل جمالاً عن زوجته، ولكن حرصه على زوجته يمنعه من الاسترسال مع عواطفه.
وصراع آخر وهو الأهم حين اكتشف أن نزيله هو الذي قتل أباه وهو لا يستطيع أن يثأر منه، لأنه كان قد أمنه!
ثم إحساسه بضياع جهوده حين اعتقل جنود العباسيين (الشيخ عبدالله) والد زوجته، وعرضوه للتعذيب، ولم يستطع أن يفعل شيئاً لإخراجه، حتى لقي منيته في السجن.. وأخيراً اختيار (ياسمين) لإبراهيم بن سليمان، وقد أحبته، وتعاطفت معه، ووجدت فيه السيد الذي يخرجها من جملة الإماء، بعد أن أدار لها سيدها ظهره؟ ثم مواجهة الحقيقة المرة، وقد تحقق ما سمعه من الشيخ عبدالله بأن الحكم للقوة، وأن الدين يستغل، وأن صاحب الحكم لا يهمه إلا سلامته، ليخرج بنتيجة وهو يصرخ: قتل الأمويون أبي! وقتل العباسيون صهري! وأنا قتلت نفسي؟!
لمياء بنت الشيخ عبدالله: لم تكن مجرد زوجة يهمها استقرار حياتها ولكنها صاحبة موقف لم يتغير، فالعباسيون الذين يحمل زوجها شارتهم ويتحمس لهم ليسوا أفضل من الأمويين في نظرها وهي بذلك تتبنى فكر أبيها وموقفه الذي يمثل الغالبية الصامتة التي لا ترى لأحد أحقية في الخلافة دون الآخرين!!.
الشيخ عبدالله: الذي لم يمنعه بطش العباسيين بمخالفيهم من الجهر برأيه وهو هنا أي في الرواية يمثل رأي الكاتب، بينما يمثل تاريخياً موقف أهل السنة والجماعة.. فاعتزل الصراع الدموي، لأن سفك الدماء لا يحقق شرعية ولا استقراراً، وهو كذلك لا يرى حصر الخلافة في آل البيت، فهم على شرفهم ومكانتهم بشر يصيبون ويخطئون، كما يرى أنه لابد من تخليص المبادئ من أيدي أصحاب المصالح خوفاً من ضياع الإسلام!.
ياسمين: التي تحس أنها لا تقل عن سيدتها في شيء وتتطلع إلى الخلاص، فهي لم ترض بالزواج من رجل يكون أقل من سيدها! ولذا رفضت العبد (ميمون) وهربت من (أبي لؤلؤة) الشاعر مع أنه سيد، لأنها تحس بأنه لايفضلها في شيء، وتتعلق بإبراهيم بن سليمان الذي يفكر بالزواج منها وتخليصها بشراء جارية تكون مكانها في بيت سيدها، فتحس بالمأساة من جديد وتقول: تحرر جارية؟ وتستعبد جارية.. فما فعلت إذن؟!!
إبراهيم بن سليمان: الذي ساقته الأقدار إلى بيت طالبه وغريمه وقد تعاهدا على أن يكونا أخوين، فلم يبخل بنصيحة لأنه أسبق في التجربة في تأييد الحاكمين.. وقد أوضح الصورة لعلي بأن كلاً منهما مخدوع ومخطئ وأن الشيخ عبدالله على صواب، لأنه لم يربط نفسه ببيت أو طرف، وإنما انطلق من مفاهيم الإسلام؟!
وتستكمل الصورة بالشخصيات الثانوية كأبي لؤلؤة الشاعر الذي يبحث عن مكانه في العهد الجديد عن طريق علي بن أبي أميمة، و(وعد) الأمة التي خاب أملها بعد زواجها من أبي لؤلؤة، لأنه عاجز عن الإنفاق عليها، فقد كسبت حريتها، ولكنها أخفقت في الإحساس باستقرار حياتها، فبدأت تحن إلى أيام الخدمة في قصر سيدها، ثم شخصية الشيخ (زين العابدين) الزاهد المعتزل الذي كان صورة صارخة من صور الاحتجاج على المجتمع المضطرب، ولكنه احتجاج سلبي، فأثره لم يكن يتعدى من يزوره! فالاعتزال في حال اختلاط الأمور هو الأسلم، ولكنه ليس الأفضل.
استطاعت هذه الرواية أن تصور خوف الناس وتذبذبهم بين الأمويين والعباسيين، كما صورت مشكلة الحرية بالنسبة للعبيد والإماء، وكذلك قضية الانتماء إلى أحد الطرفين الذي لم يبعث راحة ولم يوقف قلقاً.. كما كشفت دور الأطراف الأعجمية في التستر وراء ما أطلقوا عليه الحق المقدس لآل البيت في الحكم، وأبرزت موقف أهل السنة والجماعة من خلال ما طرحه وآمن به الشيخ عبدالله الذي لم يكن راضياً عن تصرفات الجميع، ولكنه لا يكره أحداً منهم: فالبيعة لا تؤخذ بالقهر والوعيد، والحكم لا يكون عن طريق القوة والتهديد، والعنف لا يحقق الاستقرار، وإن حققه فإنه لا يدوم .

بحث سريع