نزعة التشيع وأثرها في الكتابة التاريخية ( 3 )

بواسطة | د. سليمان العودة
2005/04/06
تحدث الكاتب جزاه الله خيراً في الحلقتين الأولى والثانية عن أثر نزعة التشيع في الكتابة التاريخية ودلل على وجود أثر تلك النزعة في الرواة الشيعة ، وهو هنا يدلل على وجود أثر تلك النزعة في مصنفات الشيعة .
ثانياً: المصنفات الشيعة :
( أ ) وقعة صفين :
وهو أحد كتب نصر بن مزاحم المنقري الكوفي المتوفى سنة 212ه، وله كتب أخرى أمثال: الغارات ، كتاب الجمل، مقتل حجر ابن عدي، مقتل الحسين بن علي (69) .
ونصر بن مزاحم هذا من أعلام الشيعة الغالين، قال فيه العقيلي: كان يذهب إلى التشيع وفي حديثه اضطراب وخطأ كثير، ثم ساق له نموذجا يمثل انحرافه في المرويات في تفسير قوله تعالى: (( والذي جاء بالصدق وصدق به )) " الآية 33: الزمر " .
قال نصر: الذي جاء بالصدق محمد ، والذي صدق به علي ، ثم علق العقيلي على ذلك بقوله: وهذا لا يتابع عليه(70) .
كما ترجم له الخطيب في تاريخه، ونقل طرفا من أقوال العلماء فيه، فعن الجوزجاني قولهك كان نصر زائغاً عن الحق مائلاً ، ثم علق الخطيب بقوله: أراد بذلك علوّه في الرفض، كما أنه نقل عن صالح بن محمد قوله: نصر بن مزاحم روى عن الضعفاء أحاديث مناكير، وعن الحافظ أبي الفتح محمد بن الحسين قوله: نصر بن مزاحم غال في مذهبه (71) ,
وقال عنه الذهبي: رافضي جلد تركوه، ثم نقل عن أبي خيثمة: كان كذّاباً .
وعن أبي حاتم: واهي الحديث متروك، وقال الدارقطني: ضعيف (72) .
كما ذكره ابن عدي في الضعفاء وساق عدداً من أحاديث رواها، ثم علق ابن عدي بقوله: " وهذه الأحاديث لنصر بن مزاحم مع غيرها مما لم أذكرها عمن رواها عامتها غير محفوظة " (73) .
نماذج من وقعة صفّين :
ومن مروياته أسوق النماذج التالية :
نقل أو اختلق صاحب " وقعة صفين " خطبة علي – - حين عزم على الخروج إلى صفين، وكان مما جاء فيها :" سيروا إلى أعداء السنن والقرآن، سيروا إلى بقية الأحزاب ، قتلة المهاجرين والأنصار .. " (74) .
وفي خطبة أخرى لا تقل سوء عن سابقتها ينسب نصر ابن مزاحم إلى علي – - أن سبب امتناع معاوية عن البيعة إنما كان ثأراً لدماء في الجاهلية إذ يقول: " ثم التفت – يعني علياً – إلى الناس فقال: فكيف يبايع معاوية علياً وقد قتل أخاه حنظلة ، وخاله الوليد، وجدّه عتبة في موقف واحد، والله ما أظن أن يفعلوا، ولن يستقيموا لكم دون أن نقصد فيه المرّان، وتقطع على هامتهم السيوف وتشرحوا حواجبهم يعمد الحديد، وتكون أمور جمة بين الفريقين (75) .
وحاشا علياً أن يقول مثل ذلك، وقاتل الله داء النزعة المذهبية وتلك آثارها .
وفي رواية ثالثة يصوّر – صاحب وقعة صفين – معاوية رجلا محتالاً يبحث عن رجال يتحدثوا له في مسبّة علي ويقول: " لما قدم عبيد الله بن عمر بن الخطاب على معاوية بالشام أرسل معاوية إلى عمرو بن العاص فقال: إن الله قد أحيا لك " عمر " بالشام بقدوم " عبيد الله " وقد رأيت أن أقيمه خطيبا فيشهد على علي بقبل عثمان وينال منه، فقال الرأي ما رأيت، فبعث إلى عبيد الله فأتاه فقال له معاوية: يا ابن أخي إن لك اسم أبيك فانظر بملء عينيك وتكلم بكل فيك … فاصعد المنبر واشتم علياً واشهد عليه أنه قتل عثمان " .
فاقتنع بذلك، ولكنه حينما صعد المنبر وبدا له غير ذلك، وأحجم عن الحديث عن علي هجره معاوية واستخف بحقه وفسقه !! (76) .
ولنصر في وقعة صفين مرويات غير هذه، وهي تخرج من مشكاتها .
وفوق ذلك نقل عنه الطبري في تاريخه روايات لا تقف عند سب معاوية واتهامه وحده، بل تشمل أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وطلحة، وأبا موسى الأشعري وغيرهم من الصحابة أجمعين، وحتى علي لم يسلم من أذاه.
فهو يرى – في إحدى رواياته – أن دم عثمان ثلاثة أثلاث: ثلث على صاحبة الهودج – يعني عائشة – وثلث على صاحب الجمل الأحمر – يعني طلحة – وثلث على علي بن أبي طالب (77) .
بل ينسب إلى عائشة ما هو أكبر من ذلك فقد روى أنها قالت: اقتلوا نعثلا – تعني عثمان – فقد كفر ؟! (78) .
أما أبو موسى فعداده في المنافقين في مرويات " نصر" حيث ينقل على لسنان " الأشتر ": أنه قال له: فوالله إنك لمن المنافقين قديما، ثم أمره الأشتر بالخروج من القصر، وأن الناس دخلوا ينتهبون متاع أبي موسى حتى منعهم الأشتر فكفوا عنه !! (79) .
وهو نموذج أخر للمصنفات الشيعية التي مزخر بالمرويات الواهية، وتشيع السمعودي وانحرافه في الكتابة التاريخية وبخاصة تاريخ الصحابة غير خاف على العلماء قديما وحديثا .
فابن العربي المتوفى سنة 543 ه حذر منه في كتابه القيّم: العواصم من القواصم في عاصمة: " الاحتراز من المفسرين والمؤرخين وأهل الآداب حيث نسبهم إلى الجهالة بحرمات الدين، أوهم على البدعة مصرين (80) إلى أن قال : ومن أشد الناس شيء على الناس جاهل عاقل أو مبتدع محتال (81) إلى أن قال :
" وأما المبتدع المحتال فالمسعودي، فإنه يأتي منه متاخمة الإلحاد فيما روى من ذلك، وأما البدعة فلا شك فيه " (82) .
وكثير ما ينعى ابن العربي على بعض أرباب التاريخ ويصفهم ب " الطائفة التاريخية الركيكة " (83) . وهم الذين يصفون بعض الصحابة بالبلاهة والضعف والخداع، ولعل "المسعودي " في عداد هؤلاء عند " ابن العربي ".
وكيف لا يكون كذلك وابن العربي يتحدث عن الذين ينشئون أحاديث فيها استحقار الصحابة والسلف، والاستخفاف بهم واختراع الاسترسال في الأقوال والأفعال عنهم، وخروج مقاصدهم عن الدين إلى الدنيا ، وعن الحق إلى الهوى (84) ثم يتحدث بعد ذلك عن المسعودي .
أما بن تيمية فقد قال: " وفي تاريخ المسعودي من الأكاذيب ما لا يحصيه إلا الله تعالى (85) .
كما تعرض الحافظ ابن حجر لنقد المسعودي وكتبه فقال:
" وكتبه طافحة بأنه كان شيعياً معتزلياً حتى أنه قال في حق ابن عمر أنه امتنع من بيعة علي بن أبي طالب ثم بايع بعد ذلك يزيد بن معاوية والحجاج لعبد الملك بن مروان، وله من ذلك أشياء كثيرة " (86) .
أما ابن خلدون فقد ترددت عباراته عن المسعودي بين القدح والمدح، والإعجاب والذم، ففي بداية حديثه في " المقدمة" ذكر وهو يتحدث عن مشاهير المؤرخين ما في كتب المسعودي من المطاعن والمغامز فقال:
" وإن كان في كتب المسعودي والواقدي من الطعن والغمز ما هو معروف عند الإثبات و مشهور بين الحفظة الثقات " (87) .
ثم ذكر ابن خلدون نماذج من الوهم والخطأ في تاريخ المسعودي (88) .
وفي موطن آخر يشير " ابن خلدون " إلى نوع من أنواع التأليف في التاريخ، هو ذكر الأحوال العامة للآفاق والأخبار والأعصار، ثم قال: فذلك أسّ للمؤرخ، ومثل ذلك بمروج الذهب للمسعودي ، قال : إن المسعودي بذلك صار إماماً للمؤرخين يرجعون إليه، واصلا يعولون في تحقيق الكثير من أخبارهم عليه (89) .
والذي يظهر أن مدح ابن خلدون للمسعودي لعموم منهجه، وشموله في كتابه لأحداث المشرق والمغرب، والعرب والعجم ، ووصفه الجبال والبلدان والبحار، والممالك والدول، وهذا حق، لكن فرق بين هذا وبين تحقيق الروايات والبعد عن السواقط والمنكرات، وهو ما نحن بصدده (90) .
ومن الباحثين المحدثين يؤكد الدكتور السويكت على الميول الشيعية القوية عند المسعودي (91)، وعلى تعاطفه العلوي في معالجته التاريخ الإسلامي وأثرها على أحكامه على الرغم من محاولته الظهور بالمؤرخ الحيادي المصنف! (92) .
وأنه خدم التشيع جيداً وبطريقة تخفي على كثير من الناس (93) .
و أن ما دونه في مؤلفاته من معلومات عن التاريخ الإسلامي الأول لم يكن محل رضا من العلماء المسلمين المحققين، بسبب عدم التزامه في بالمنهج الإسلامي القويم الذي يحفظ لصحابة رسول الله مكانتهم في النفوس(94).
كما يلاحظ أن نزعة المسعودي الشيعية قد أثرت على كتابته في تاريخ الخلفاء الراشدين والأمويين، ولم يستطع أن يكتب تاريخا مجردا من الهوى (95) .
وبعد فقد آن الأوان لنقل بعض مرويات المسعودي التي لم تكن ولن تكون محل رضا العلماء المسلمين والباحثين المنصفين .
نماذج لروايات في كتاب المسعودي ( مروج الذهب)
إذا كان للمسعودي عدد من المصنفات في التاريخ (96) فحسبنا في هذه الدراسة أن نقف على واحد من أشهر كتبه وأكثرها رواجا وهو " مروج الذهب " .
وقبل نقل المرويات يسجل على المسعودي في " مروج الذهب" الملاحظات التالية :
(1) اختصر الحديث في خلافة أبي بكر الصديق اختصارا مخلا، حيث لم يتجاوز حديثه ثماني صفحات قال في نهايتها معللا ذلك: وقد أعرضنا عن ذكر كثير من الأخبار في هذا الكتاب للاختصار والإيجاز (97) .
ولا أدري لماذا يكون الاختصار هنا، بينما في خلافة علي تبلغ ثمانين صفحة، ومع ذلك يعتذر في النهاية عن حصر مناقب علي وفضائله معللا ذلك بعرضه في كتب أخرى(98) .
(2) ليس ذلك فحسب بل الأدعى من ذلك أن المتأمل بالتمرد الندم على قبول الخلافة (100) .
وهو لم يقبلها إلا خشية الفتنة (101) .
وإشارة المسعودي – في معرض حديثه عن خلافة أبي بكر – إلى إمامة المفضول (102) يؤكد ذلك كله ؟!
(3) يصف المسعودي نهاية عمر وعثمان بالقتل (103) ونهاية علي بالاستشهاد (104) .
(4) تعدى المسعودي وتجاوز في حديثه على كثير من الصحابة الذين كانت لهم مواقف مع علي ، ووصفهم بما لا يليق بمكانتهم، كطلحة والزبير، وعائشة، ومعاوية أجمعين (105) .
نماذج من كتابة المسعودي في " المروج "
النموذج الأول : التهكم بمعاوية ومن معه ؟
يقول السمعودي (106) : وبلغ – يعني معاوية- من إحكامه للسياسة وإتقانه لها واجتذابه قلوب خواصه وعوامه أن رجلا من أهل الكوفة دخل على بعير له إلى دمشق في حالة منصرفهم عن صفين فتعلق به رجل من دمشق فقال: هذه ناقتي أخذت مني بصفين، فارتفع أمرهما إلى معاوية، وأقام الدمشقي خمسين رجلا بينه يشهدون أنها ناقته، فقضى معاوية على الكوفي، وأمره بتسليم البعير إليه ، فقال الكوفي: أصلحك الله إنه جمل وليس بناقة، فقال معاوية: هذا حكم قد مضى، ودس إلى الكوفة بعد تفرقهم فأحضره وسأله عن ثمن بعير فدفع إليه ضعفه ، وبرّه وأحسن إليه، وقال له: أبلغ علياً أني أقاتله بمائة ألف ما فيهم من يفرق بين الناقة والجمل .
ثم يتمادى المسعودي – في بقية ورايته – بالتهكم والسخرية بمعاوية واستغفال من معه إلى درجة يقول معها :
وقد بلغ من أمرهم ف طاعتهم له أنه صلّى بهم عند مسيرهم إلى صفين الجمعة في يوم الأربعاء ؟! إلى أن يقول: ثم ارتقى بهم الأمر في طاعته إلى أن جعلوا لعن علي سنة ينشأ عليها الصغير ويهلك عليها الكبير ! (107) .
ثم يقول السمعودي: وذكر بعض الإخباريين أن قال لرجل من أهل الشام من زعمائهم وأهل الرأي والعقل منهم : من أبو تراب هذا الذي يلعنه الإمام على المنبر ؟ قال: أراه لصاً من لصوص الفتن (108) .
النموذج التالي: بين معاوية والحسن ( رضي الله عنهما)
ومع أن الحسين بن علي رضي الله عنهما صالح معاوية ، وتنازل له عن الخلافة، وحقق بذلك نبوءة النبي حيث قال :
" إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين " (109) .
وباركت الأمة هذه الخطوة، وأكبرت للحسن صنيعه، وخرج المعتزلون للفتنة من الصحابة وبايعوا معاوية وسمي العام عام الجماعة لاجتماع الناس وانقطاع الحرب (110) . إلا أن الرافضة لم ترض بذلك ، وبات علماؤهم يسردون روايات ساقطة في الوقيعة بين الحسن ومعاوية .
فالمسعودي يذكر– مثلا– أن معاوية وراء قتل الحسن بن علي وأنه دسّ إلى زوجته " جعدة بنت الأشعث بن قيس الكندي " إنك إن احتلت في قتل الحسن وجهت إليك بمائة ألف درهم، وزوجتك من يزيد، فكان ذلك الذي بعثها على سمّه(111)
وثمة رواية أخرى ينقلها المسعودي وعزوها إلى ابن جرير الطبري ويسندها إ‘لى محمد بن حميد الرازي وفيها سرور معاوية حين بلغه موت الحسن،وأنه كبر وتكبيرة كبر معه أهل الخضراء، ثم كبر أهل المسجد بتكبيرهم، وأن ابن عباس حين بلغه ذلك دخل على معاوية فقال علمت يا ابن عباس أن الحسن توفى، قال ألذلك كبرت ؟ قال: نعم، قال: أما والله ما موته بالذي يؤخر أجلك ولا حفرته بسادة حفرتك، ولئن أصبنا به لفقد أصبنا قبله بسيد المرسلين وإمام المتقين ورسول رب العالمين ثم بعده بسيد الأوصياء، فجبر الله تلك المصيبة، ورفع تلك العترة، فقال ويحك يا ابن عباس ما كلمتك قط إلا وجدتك معداً (112) .
وهكذا يبدو النفس الشيعي واضحاً في هذه الرواية، فالحسن وابن عباس في جانب، ومعاوية في جانب آخر، وفوق ذلك فعلي يحشر في الرواية حشراً، ويوصف بسيد الأوصياء!!
ومعاوية لا يسر فحسب بموت الحسن ويخفى ذلك في نفسه، بل يعلنه على الملأ، وتتلاقى تكبيرات أهل الخضراء وأهل المسجد مع تكبيراته، أذلك لانتصار المسلمين في معركة، أم تراه لهلاك طاغية ؟! كلا وإنما فرحاً بموت سبط رسول الله ؟ سبحانك هذا بهتان عظيم !!
وبعد فهذه نماذد مختصرة أكتفي بإيرادها، واقتصر بها عن ما سواها من نماذج، لأن هذه الدراسة لا تهدف إلى حصر الرواة الشيعة وليس القصد منها جمع المرويات الشيعية وإنما القصد الإبانة عن هذه النزعة أثرها في الكتابة التاريخية، والتمثيل لها القدر الذي يكشف للقارئ وجودها وخطرها ، ويهديه بعد إلى تتبع نظائرها، ورصد مثيلاتها، والتعرف على أصحابها، وأرجو أن تكون حلقة في سلسلة لدراسات أوسع، وبداية لبحوث أعمق في هذا الميدان، فليس ينقصنا في الدراسات التاريخية جمع النصوص والتأليف بينها. وإنما الذي نحتاج إليه كشف مخبوء النصوص ومعرفة من وراءها، وتتبع عورات بعض الرواة والكشف عن مناهجهم ونزعاتهم وأثر ذلك على مروياتهم، وهذا وذاك من الوسائل الناجعة لإعادة كتابة تاريخنا ، وهو المنهج الأقوم والأسلوب الأمثل لرسم الصورة الحقيقية لحضارتنا وتاريخ أسلافنا .
والله من وراء القصد وصلى الله على نبينا محمد .

بحث سريع